رحل الكاتب الساخر جلال عامر معلنا انطفاء بسمة جماعية كان يرسمها كل صباح على وجوه قرائه، رحيل ربما لن يعوضه إلا ذلك الرصيد الإبداعي والإنساني الذي تركه فى قلوب وعقول محبيه، بسخريته المرة كان عامر يحاول تحريك تلك المياه الراكدة داخل عقول عطلها القهر والظلم وربما الصمت الطويل، إنه بسمة وطن.
كان الراحل يستعد للخروج من الإنعاش، فرحل هو وبقيت "مصر على كف عفريت". عاش ما بين ثورتين، فقد ولد في ثورة يوليو/ تموز 1952، ورحل حزنا بعد مرور عام من ثورة يناير/ كانون الثاني 2011، وكان أحد ضباط حرب أكتوبر 1973 قائدا للسرية بالفرقة 18 بقيادة اللواء فؤاد عزيز غالي، وشارك مع فرقته في تحرير مدينة القنطرة.
قدم عامر كتابا بعنوان "مصر على كف عفريت" جمع فيه مجموعة من مقالاته، حيث يقول "بدأت مصر بحفظ الموتى وانتهت بحفظ الأناشيد، لأن كل مسؤول يتولى منصبه يقسم أن يسهر على راحة الشعب، دون أن يحدد أين سيسهر وللساعة كام؟ ففي مصر لا يمشي الحاكم بأمر الدستور، ولكنه يمشي بأمر الدكتور، ولم يعد أحد في مصر يستحق أن نحمله على أكتافنا إلا أنبوبة البوتاغاز. فهل مصر في يد أمينة أم فى أصبع أميركا أم على كف عفربت؟".
والكتاب الصادر عن دار العين في 208 صفحات يضم 101 مقال من أفضل ما كتب، راصدا الأوضاع الاجتماعية والسياسية في مصر بشكل ساخر ولاذع، رغبة في إصلاحها، والتغلب عليها من خلال سخرية مرة تجعلك تضحك حتى البكاء.
نقد السلطة
ويقول الكاتب بأولى مقالاته بالكتاب "على فكرة أنا حضرت "مصر" الله يرحمها وأوعى لها كويس وعاشرتها فترة قبل ما تموت، ولما طلعوا بيها فاكر إن الريس كان فى مقدمة المشيعين، وفي الجنازة بعض المغرضين قالوا: يقتل القتيل ويمشي في جنازته، يومها أبو عويس زغدني في كتفي وقال لي اسكت يا غبي قلت له مش أنا يا با اللي قلت كده، قال لي: ما أنا عارف يا غبي، أنا باضربك عشان الأمن اللي حولينا يعرف إن أنا مش موافق على الكلام ده".
وفى موضع آخر بالكتاب وتحت عنوان "البقاء لله" يقول "توفيت إلى رحمة الله تعالى الدولة المدنية الشهيرة بالجمهورية المولودة في 1953، والمذكورة عمدة بلدان الشرق الوسط وقريبة ونسيبة العالم العربي، وخالة وعمة العالم الإسلامي وشقيقة المرحومة الجامعة العربية، والمرحومة منظمة عدم الانحياز، وسوف تشيع الجنازة من مقر الحزب الوطني بكورنيش النيل".
يكتب عامرأيضا بكتابه عن زيارة مبارك إلى قبري جمال عبد الناصر وأنور السادات، وهي الزيارة السنوية التي كان يحرص عليها، متخيلا ما الذي يمكن أن يقوله أمام قبر كل منهما.
وقال "سيقول أمام قبر عبد الناصر: طبعا أنت عارف أنا لا عايز أزورك ولا
أشوفك بس هي تحكمات السياسة اللعينة. حد يا راجل يعادي أميركا؟ ويحارب المستثمرين. على العموم ارتاح. أنا بعت كل المصانع اللي أنت عملتها، والعمال إللي أنت مصدعنا بيهم أهم متلقحين على القهاوي".
وأمام قبر السادات، سيقرأ الفاتحة ثم يمسح وجهه وينصرف. هذه الحكاية تلخص فعلا ما أصاب مصر من تحولات، وتجيب عن سؤال: كيف تحولت من "أم البلاد" إلى "أم الفساد"؟.
مشاغل المواطن
ولم يكن من الممكن أن تمر كارثة غرق عبارة السلام التي يمتلكها ممدوح إسماعيل، دون انتقاد عامر الذي اعتاد معايشة أبناء وطنه في كل ما يخصهم، وكتب بعنوان "المسيح يصلب من جديد" قائلا "للروائي اليوناني العالمي كازانتزاكيس الحاصل على نوبل، رواية شهيرة بعنوان "المسيح يصلب من جديد" وأحداث الرواية متجددة مع كل برئ يقتل بينما يكافأ القاتل. وما حدث في مناقشة تقرير العبارة في مجلس الشعب يؤكد أن المصري يغرق من جديد، وأن دكتور فتحي سرور يستحق نوبل عن هذه الرواية".
ويتابع قائلا "الشرير في الرواية اليونانية لم يجد أحدا يوصله إلى مطار أو يحميه أو يغطيه بالحصانة ليمنع عنه يد العدالة وعين الحسود، وإذا كان ممدوح إسماعيل قد حول البحر الأحمر إلى بحيرة خاصة به، فإن البعض حول البرلمان إلى محمية طبيعية للفساد، ولم يعد يعنيه الشعب، بل الشعب المرجانية والحيتان.
ويرصد أيضا الأزمات المتكررة لرغيف الخبز ومتاعب المواطن المصري البسيط قائلا "عاصرت ملكا وأربعة رؤساء جمهورية ونصف دستة مرشدين لجماعة الإخوان المسلمين وتسعة رؤساء أميركان وحوالى عشرين ألف وزارة وكلها كانت تتباهى بنيشان مستدير تضعه على عروة الجاكتة اسمه "رغيف العيش" وقد شاركت المرأة في مطلع القرن العشرين في ثورة 1919 ثم تطورت وحققت مكاسب في القرن الواحد والعشرين وشاركت بقوة في طوابير الخبز.
ويضيف "على الورق مصر تنتج من أرغفة الخبز أكثر مما تنتجه السعودية من براميل النفط، وأكثر مما تنتجه بوليفيا من الموز، لكن أين يذهب. هل تستورد مصر القمح لتعيد تصنيعه وتصديره أم يتم سحب الخبز من السوق ليحلف عليه الوزراء الجدد؟ الموضوع خطير ويحتاج إلى حلول جذرية كأن نحول الرغيف من مستدير إلى مربع، أو نكلف ساعى الدكتور نظيف (أحمد نظيف) بشراء الخبز، أو تتخلى الدولة عن حبس الصحفيين وتتفرغ مؤقتا لحبس الفرانين".
المواطن وأقسام الشرطة
وكتب عامر منتقدا إهانة المواطن في أقسام الشرطة، وبعنوان "مواطن ومخبر وحرامي" قائلا " لا يمر يوم إلا ويسقط مصريون في ساحة الوغى في الخطوط الأمامية في الجبهة على أرض البوليس أو داخل مربع العمليات في التخشيبة ، مطلوب قوات دولية في دارفور وفي غرفة المأمور".
هذه الحوادث تؤكد أن هناك خللا في المواطن المصري، إما أنه يحمل وجها مستفزا أو أنه مثل أسماك التونة عندما تقترب نهايته يهاجر بالغريزة ليموت في غرفة المأمور، فيقطع آلاف الأميال البحرية حتى يصل منهكا إلى أرخبيل المأمور ويفارق الحياة هناك.
ويكمل عامر قائلا "في احتفالات الشرطة تستعرض أمام المسؤولين فنون القتال والاشتباك مع المجرمين، ثم مع المواطنين العاديين من أول خلع الملابس والجلد والصعق حتى مصرع المواطن وتسليمه لحانوتي القسم".
الكاتب الراحل عرف نفسه بسخريته المعهودة قائلا: اسمي "جلال" وفي البيت "المخفي" وأنا أول مواطن يدخل قسم الشرطة ويخرج حيا.. وأنا المصري الوحيد الذي كتبت في إقرار ذمتي المالية أن عندي "حصوة" فأنا لا أمتلك "سلسلة مطاعم" بل فقط "سلسلة ظهري" وسلسلة كتب، وحضرت عشرات المؤتمرات الثقافية تحت شعار "دع مائة مطواة تتفتح" ونجوت منها.. وأعرف أن 90% من جسم الإنسان ماء، لكنه يستطيع أن يفعل الكثير بـ10% الباقية.
ويضيف "عندي بطاقة تموين حمرا خالية من الدهون، لأن البقال كل شهر يسرق الزيت، ولا أصرف معاشا بسبب عيب خلقي، وأخوض معكم حرب الثلاث وجبات. وأرتدي بيجاما مخططة ولعلها الشئ الوحيد المخطط في هذا البلد العشوائي، وأي تغيير في لون البيجاما أبلغ عنه فورا شرطة المصنفات".
وأؤمن أن أعظم كاتب في البلد هو "المأذون" وأن مصر بخير ولا ينقصها إلا أكلة "جنبري" على البحر.. وأحفظ برنامج السيد الرئيس في درجة حرارة الغرفة، وأعرف أن الحياة بدأت بضربة جوية وسوف تنتهي بضربة أمنية، لذلك لا أحب الصراعات، والمرة الوحيدة التي تصارعت وتدافعت فيها في الطابور ونجحت في الحصول على خبز سحبوه مني بحجة أنني أتعاطى منشطات".